الأخبار والأنشطة

02 تشرين ثاني 2021
النقص يهدّد جودة الخدمة الطبية في لبنان: السّلطة تهجّر الأطباء والممرضين

نهاية شهر أيلول الماضي، حذّرت منظمة الصحة العالمية من أنّ القطاع الصحي في لبنان معرّض لخطر الانهيار لأسباب عدّة من أبرزها النقص في المختصّين الطبّيين الذي بلغ معدّلاً خطيراً. فما يقارب من 40% من الأطباء “المهرة” ونحو  30%من الممرّضات والممرضين تركوا لبنان إما بشكل دائم أو مؤقت.

ومنذ العام 2019 والقيّمون على القطاع الصحّي في لبنان يحذّرون من نزف غير مسبوق للعاملين في القطاع، متحدّثين عن خسائر قد يكون من الصعب تعويضها، الأمر لا يتعلّق فقط بأعداد الذين تركوا لبنان بل بأنّ معظم هؤلاء هم من أصحاب الكفاءة والخبرة التي تحتاج إلى سنوات لتعويضها، جودة الخدمة الطبيّة على المحك  “تكرّر نقابة الأطباء ونقابة الممرضين والمستشفيات.

 2500 طبيبة وطبيب وأكثر من 2000 ممرضة وممرض تركوا لبنان 

تجاوز عدد الأطباء الذين تركوا لبنان منذ العام 2019 إلى اليوم 2500 طبيب وطبيبة بحسب نقيب الأطباء في بيروت شرف أبو شرف الذي يوضح لـ"المفكرة القانونية" أنّ الذروة في موجة هجرة الأطباء كانت في العام 2020 وتحديداً بعد تفجير الرابع من آب حين خرجت 4 مستشفيات جامعية عن الخدمة فهاجر منها وحدها 100 طبيب وطبيبة.

يشكّل عدد الأطباء الذين تركوا لبنان خلال هذه الفترة أكثر من 17% من مجموع الأطباء في لبنان والبالغ عددهم 15 ألف طبيب وطبية، وعلى الرغم من أنّ هذه النسبة ليست قليلة فإنّ الخطر الأكبر برأي أبو شرف يكمن في استمرار موجة الهجرة. إذ يقول: "هناك 20 طبيباً يقسمون يمين المهنة أسبوعياً ومعظمهم بات يسافر مباشرة، وإذا بقي الأمر على حاله سنواجه مشكلة في عدد الأطباء في لبنان".

ويشير أبو شرف إلى أنّ الوجهات الأساسية للأطباء اللبنانيين هي العراق ودول الخليج، معتبراً أنّ الطبيب الذي يذهب إلى هذه الدول من المرجّح أن يعود عندما تتحسّن الأحوال في لبنان ولكنّ الخسارة الكبيرة تكمن في من ذهبوا إلى دول غير عربية مثل أوروبا وتحديداً فرنسا التي كانت وجهة أساسية أيضاً فضلاً عن الولايات المتحدة الأميركية وأستراليا موضحاً: "هؤلاء ذهبوا مع عائلاتهم ولا أظنّهم يعودون، خسرهم لبنان بشكل كلّي".

بالإضافة إلى أعداد الأطباء الذين تركوا لبنان نهائياً أو بعقود عمل لسنوات محدّدة كما الحال في دول الخليج، يلفت أبو شرف إلى ما يمكن وصفه بـ "نصف هجرة" التي تنطبق على عدد لا بأس به من الأطباء الذين بقيوا في لبنان ولكنّهم يسافرون شهرياً لمدة أسبوع أو أسبوعين إلى دول يعملون فيها بشكل متقطّع.

ويلفت أبو شرف إلى أنّ أخطر ما في هجرة الأطباء هو خسارة الكفاءات والخبرات إذ إنّ النسبة الأكبر من الأطباء الذين هاجروا هم من أصحاب الخبرة الطويلة ومن الكفوئين الذين كان وجودهم عماداً للقطاع الطبي في لبنان ويحتاج تعويضهم لسنوات غير قليلة، ما سيؤثّر بالتأكيد على جودة الخدمة الطبيّة في لبنان.

هجرة الأطباء ترافقت أيضاً مع هجرة غير مسبوقة في قطاع التمريض كما تؤكّد نقيبة الممرضات والممرضين ريما ساسين قائلة في حديث لـ"المفكرة": "القطاع التمريضي ليس بخير بل بلغ مرحلة خطرة تستدعي إعلان حال طوارئ، خسرنا منذ العام 2019 إلى اليوم أكثر من ألفي ممرض وممرضة تركوا لبنان، والنزف مستمر، فمئات الممرضين والممرضات يحضّرون أوراقهم للهجرة، ومئات آخرون يبحثون عن أيّ فرصة عمل في الخارج، ومستشفيات لبنان تعاني من نقص في عدد الممرضين".

وتشير ساسين إلى أنّ أغلب الممرضات والممرضين الذين هاجروا هم من الفئات الشابة والمتوسطة وممن يمتلكون خبرات من الصعب تعويضها، وأنّ وجهتهم كانت دول الخليج بشكل أساسي فضلاً عن دول أوروبية وكندا، موضحة أنّ بعض المستشفيات اضطرّت إلى إقفال أقسام بسبب نقص عدد الممرضات وبعضها الآخر بات يستعين بممرضات من دون خبرة أو بمساعدين، أو قام بخفض عدد الممرضين لكلّ مريض. ففي حين يجب أن يكون لكلّ 7 مرضى ممرض أو ممرضة، يضع بعض المستشفيات حالياً ممرضاً أو ممرضة لكلّ 20 مريضاً ما يعني تراجع جودة الخدمة التمريضية فضلاً عن رفع مستوى الضغوط النفسية والجسدية على الممرضين ما يشكّل عاملاً إضافياً يجعلهم يرغبون في الهجرة.

  نزف الكفاءات الطبية والتمريضية مستمرّ والحوافز غير كافية 

تحاول المستشفيات في لبنان ولاسيّما الجامعية منها اتخاذ إجراءات تمنع النزف المستمر للممرضات والممرضين فبعضها عمد إلى إعطاء حوافز مادية كاحتساب قسم من الراتب على سعر الدولار في السوق السوداء وقسم آخر على الـ "لولار" (3900 للدولار) بالإضافة إلى تأمين نقل مشترك للعاملين في القطاع التمريضي في ظلّ ارتفاع سعر صفيحة البنزين أو تسهيل المنامة داخل المستشفى. إلّا أنّ هذه الحوافز لم توقف النزف ولاسيّما أنّ الأوضاع تتجه إلى الأسوأ في لبنان حيث باتت الخدمات الأساسية غير متوافرة.   

تتحدّث المستشفيات التي تواصلت معها "المفكرة" عن استقالات تقدّم بشكل شبه أسبوعي من ممرضات وممرضين وأطباء، فمستشفى "أوتيل ديوط وحده خسر 90 ممرضة وممرضاً منذ عام إلى اليوم  هاجر منهم سبعون بينما بحث العشرون الباقون عن أعمال أخرى غير التمريض أو فضّلوا البقاء في المنزل كون الراتب "ما عاد محرز". ويشير مصدر في المستشفى في اتصال مع "المفكرة" إلى  أنّ 90 ممرضاً وممرضة من أصل 480 هو عدد ليس قليلاً وأنّ الصعوبة تكمن في استبدالهم بآخرين يملكون الخبرة والكفاءة نفسيهما

أمّا عدد الأطباء والطبيبات الذين تركوا "أوتيل ديو" منذ سنة ونصف السنة فبلغ 18 طبيباً وطبيبة، 8 منهم تقدّموا باستقالاتهم وهاجروا، و10 جمّدوا عقد عملهم مع المستشفى ليستطلعوا العروض في الخارج ويقرّروا بعدها الاستقالة من عدمها.

كذلك ترك 134 ممرضة وممرضاً العمل في مستشفى رفيق الحريري الحكومي منذ العام 2019 إلى اليوم، معظمهم هاجر أو ترك لبنان بعقود عمل تمتد لسنوات، مع الإشارة إلى أنّ النسبة الأكبر منهم  أي ما عدده 64 ترك المستشفى هذا العام.

وفيما خصّ الأطباء، بلغ عدد الذين قدّموا استقالاتهم من مستشفى الحريري خلال السنوات الثلاث الأخيرة 18 طبيباً وطبيبة هاجر بحدود 90% منهم.

 الأطباء والممرّضون مواطنون أيضاً

بشكل عام، لا تخرج الأسباب التي تدفع الأطباء والكادر التمريضي إلى الهجرة عن إطار الأسباب العامة التي يكرّرها أيّ مواطن لبناني هاجر أو يرغب بالهجرة، من فقدان قيمة الراتب بسبب انهيار الليرة مقابل الدولار وغياب الخدمات الأساسية وتكرار الحوادث الأمنيّة وعدم الشعور بالأمان، ولكن يضاف إليها أسباب ترتبط مباشرة بالقطاع أثّرت على الأطباء والممرضين بشكل خاص بدءاً من العمل في ظروف صعبة جداً خلال قمة انتشار وباء كورونا مروراً بتفجير الرابع من آب وصولاً إلى غياب الحدّ الأدنى من المقوّمات المطلوبة التي تسمح للطبيب أو الممرض القيام بواجباته بالشكل المطلوب في المستشفى أو العيادة ولاسيّما في ظلّ أزمة شح الأدوية والمستلزمات الطبيّة "التي وجد الطبيب أو الممرض نفسه مكبلاً أمامها" كما يكرّر الأطباء والعاملون في قطاع التمريض.

وفي الإطار تعدّد ساسين أسباباً عدّة تدفع العاملين في قطاع التمريض إلى الهجرة، فبالإضافة إلى ظروف العمل الصعبة والساعات الطويلة، باتت قيمة راتب الممرض متدنية جداً. فهذا الراتب لا يتجاوز مليونين و500 ألف ليرة حسب ما حدّد وفق سلسلة الرتب والرواتب أي ما كانت قيمته بحدود 1600 دولار واليوم لا تتجاوز 125 دولاراً. إلّا أنّ هذا الراتب يتدنّى إلى 800 ألف ليرة (ما كان يساوي 533 دولار وأصبحت قيمته لا تتجاوز 40 دولاراً) ولا سيما في الأرياف كما أنّ هناك ممرضات وممرضين يتقاضون 5 آلاف ليرة يومياً في بعض المراكز الصحية البعيدة عن المدن.

ولا يبدو الحال أفضل بالنسبة للأطباء إذ يلفت أبو شرف إلى أنّ تعرفة معاينة الطبيب في العيادة كانت 60 ألف ليرة وارتفعت مؤخراً إلى 200 ألف ليرة إلّا أنّ هذا يعني أنّها باتت تساوي 10 دولارات بعدما كانت تساوي 40 دولاراً، مع الإشارة إلى أنّ بعض المستشفيات الجامعية رفعتها إلى 400 ألف (20 دولاراً).

ويذكر أبو شرف أنّ عدد المراجعين للعيادات والمستشفيات تراجع بشكل كبير خلال السنوات الماضية إذ إنّ الطبابة أصبحت رفاهية عند نسبة كبيرة من المواطنين الذين باتوا لا يذهبون إلى الطبيب إلّا عند الحاجة القصوى، مشيراً إلى أنّ معظم الأطباء يراعون وضع المرضى ويتقاضون في الكثير من الأحيان أقلّ من التعرفة الرسمية من دون أن ينفي وجود أطباء يحدّدون تعرفات عالية.

"هُجّرنا" بالقوّة.. لم نعد نقوى على إدارة الأزمات

يتحدّث الطبيب ربيع شاهين الرئيس السابق للجسم الطبي في مستشفى الحريري الحكومي عن معاناة متكرّرة بات يعيشها الطبيب اللبناني تدفعه إلى ترك لبنان والتفكير في الهجرة، عن معارك يوميّة يخوضها كمواطن وكطبيب. ويقول: "هناك حدّ للتحمّل، نحن بشر، لقد بتنا مرهقين جداً، أصبحنا ندير أزمات فقط".

تتلخّص الأزمات التي يتحدّث عنها شاهين، وهو واحد من الأطباء الذين تركوا لبنان مؤخراً متّجهًا إلى إحدى الدول الخليجيّة بعد أكثر من 20 عاماً من العمل في مجال الطب في لبنان، بنقص في الوقود والدواء والمستلزمات الطبية في المستشفيات، ما يدفع فريق العمل وانطلاقاً من واجبه الإنساني إلى بذل مجهود مضاعف، مجهود يفوق في بعض الأحيان طاقة الطبيب والممرض. ويقول: "وفي نهاية المطاف يدفع المريض ثمناً كما الطبيب، وإذا أردنا أن نكون موضوعيين مستوى الخدمة الطبية يتراجع رغم بذل العاملين في المستشفيات مجهوداً كبيراً، فكلّ هذه الأزمات تزامنت مع تزايد الطلب على المستشفيات الحكومية بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة، ما يعني المزيد من الضغوط على الطبيب في ظلّ ظروف صعبة".

يضاف إلى هذه الظروف الوضع الاقتصادي الذي أثّر مباشرة على الطبيب فراتبه فقد وكباقي اللبنانيين حوالي 90% من قيمته، فضلاً عن معاناته كغيره من اللبنانيين من نقص الخدمات الأساسية ولا سيّما الكهرباء والبنزين، "نهاجر من أجل الخدمات، نذهب إلى أي بلد يوفّر لنا الخدمات الأساسية" يقول شاهين. مضيفاً:" سبب الهجرة البقاء واقفين فقط، نبحث عن شعور بالراحة، عن مكان ممكن أن نقدّم فيه خدمة أفضل للمريض، مكان يمكن أن نتطوّر فيه بدلاً من أن نبقى طوال الوقت ندير أزمات لسنا سببها ولا من مسؤولياتنا التعامل معها".

الأسباب نفسها يكرّرها العاملون والعاملات في قطاع التمريض يتحدّثون عن رغبة في العمل في ظروف طبيعية عن رغبة بالعيش في ظروف إنسانية، " لما نهاجر لأننا تعبنا من أن نفكر في تأمين الكهرباء والبنزين وصعود الدرج أو إذا الراتب يكفي لآخر الشهر"، تقول الممرضة فاطمة مقبل (26 عاماً) التي تستعدّ للتوجّه إلى الكويت بعقد عمل مدّته 3 سنوات لا تعرف إن كانت تعود بعد انتهائه إلى لبنان.

تشير فاطمة إلى أنّ السنوات الثلاث الأخيرة كانت مرهقة جداً وتقول: "نبدأ من كورونا عملنا نحن الممرضات ولاسيّما في المستشفيات التي خصّصت لاستقبال حالات كورونا لأكثر من 23 يوماً في الشهر، اضطرّيت في الكثير من الأوقات أن أصل الليل بالنهار، بعد هدوء موجة كورونا كانت تداعيات الأزمة الاقتصادية أصبحت أكثر تأثيراً علينا، هاجر عدد كبير من الممرضات فبرز ضغط من نوع آخر، فنقص الممرضات ترك عبئاً على من بقي منهن، فأصبحت أنتقل من طابق إلى طابق ومن قسم إلى قسم وهذا مرهق، وترافق ذلك مع نقص في الأدوية والمستلزمات الطبية في المستشفيات، وغياب الخدمات الأساسية في منزلنا وعدم قدرتنا على تأمين البنزين للوصول إلى العمل وتأمين الدواء إلى أقرب الناس لدينا وكلّ هذا من أجل راتب لا يكفي حتى نهاية الشهر".

تشعر فاطمة بأنّها "طردت من لبنان" وتقول وهي تحزم حقائبها للسفر: "لا لست سعيدة، لا يمكن لأحد أن يشعر بالسعادة إذا كان يترك لبنان مجبراً، أنا طردت من بلدي دفعت دفعاً إلى العمل خارجه، لم أكن يوماً أفكّر بالسفر بهدف الاستقرار خارج لبنان، كل ما أقوله أنني زمطت وسأتمكّن من العيش في بلد يوفّر لي الخدمات ويقدّم لي راتباً سأرسل منه مبلغاً إلى عائلتي لأعيلها، أريد أن أطوّر نفسي، كيف يمكن لمن ينشغل بالكهرباء أن يطوّر نفسه".

الراتب في الخارج لم يعد مغرياً ولكن أيّ مكان أفضل من لبنان 

يشير شاهين كما غيره من الأطبّاء الذين تواصلنا معهم إلى أنّ عروض العمل التي تقدّم للأطباء حالياً في الخارج لم تعد كما السابق بسبب انهيار الليرة مقابل الدولار وأنّه رغم العروض التي كانت سابقاً مغرية لم يفكر في الهجرة ولكن فعلها اليوم، ليس طمعاً بالراتب الذي تراجع إلى الضعف مقارنة بما كان يعرض عليه قبل انهيار الليرة، ولكن لأنّه لم يبق لديه أمل، "الوضع دائماً يتّجه إلى الأسوأ وما عدت قادراً على الصمود، أي فرصة هي أفضل من البقاء في لبنان، هي فرصة للنجاة بنا".

تترك فاطمة عائلتها وبلدها على راتب لا يتجاوز 1200 دولار بعدما كان الممرضون يتركون لبنان بعقود عمل إمّا توفّر لهم مركزاً مميزاً أو راتباً لا يقلّ عن 4 آلاف دولار، "1200 دولار أي ما كانت عليه قيمة راتبي قبل انهيار الليرة، لا أسافر لأجمع المال، ولكنّني سأتمكّن من إرسال مبلغ إلى عائلتي يعينهم"، تقول فاطمة وتضيف: "الحرب الاقتصادية أصعب من أي حرب فهي تقتلنا ببطء".

 

 مقال من موقع المفكرة القانونية للكاتبة ايناس شري نًشر يوم الثلثاء 2/11/2021 

 

من نحن

تطلّعاتنا هي تأمين عمل لائق ودخل مستدام ومستقر لضمان التنوع الصحي للمجتمع اللبناني والعمل على تشجيع الأفراد اللبنانيين على المساهمة الفعالة في بناء الأمة من خلال مؤسسات القطاع العام.