ليس مستغرباً أو منافياً لقواعد التجارة والأعمال أن ترتفع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية والخدماتية الى معدلات جنونية خصوصاً بالنسبة لذوي الدخل غير المدولر، في بلد 90% من حاجاته الحياتية، وضرورات المأكل والمشرب فيه، مستوردة من الخارج، وبالعملة الصعبة، وفي ظل انهيار اقتصادي ونقدي قضى على 95% من القدرة الشرائية لعملته الوطنية.
تنامي الأسعار صعوداً أتى على خلفية تراكم مسببات محلية وخارجية عدة، تضافرت في صناعة مشهد الغلاء الفاحش وتغيّر السلوك الاستهلاكي عند غالبية اللبنانيين.
في المحلي، حتّم انهيار العملة ارتفاع الأسعار بالليرة، ولم تجدِ نفعاً كبيراً في خفضها خطوة دولرة أسعار السوبرماركت والمحروقات، حيث هزم تنسيق التسعير قاعدة المنافسة، وبات من النادر أن يجد المستهلك فرقاً ملموساً في الأسعار بين نقاط البيع، باستثناء بعض المناطق البعيدة عن العاصمة والمدن الرئيسية، حيث فرض ضمور الحركة وجمود الأسواق تخفيضات لا يُعتد بها، ولا تصح الإشارة إليها بأنها "أسعار منافسة".
وفي الأسباب الخارجية، كان للارتفاع المطّرد في أسعار المحروقات في الأعوام الثلاثة المنصرمة أثر بالغ في رفع كلفة نقل المستوردات والتأمين عليها، وكذلك الزيادات التي طرأت على رسوم المرافئ والمطار، فضلاً عن الحرب الضروس التي اندلعت بين روسيا وأوكرانيا، والنقص العالمي الحاد في جميع أصناف الحبوب والزيوت النباتية بعد توقف الإنتاج والتصدير الأوكراني شبه الكلي.
الأسباب أعلاها وأسباب أخرى، خلصت إليها الدراسة التي أعدّتها كلية سليمان العليان لإدارة الأعمال في الجامعة الأميركية في بيروت بالتعاون مع الدكتور فؤاد زبليط التي اعتمدت على البيانات المنشورة على موقع www.humdata.org بشأن أسعار السلع في لبنان. الدراسة بيّنت أن المستهلك يواجه تغييرات في الأسعار، خلال الفترة الزمنية عينها بين المناطق المتفاوتة في لبنان) المحافظات)، مرجحة أن أسباب المشكلة تعود الى النقص في مراقبي الأسعار، والنطاق المحدود في مجال ضبط الأسعار وتحديد الحدود العليا لها، والنقص في توافر خبراء متخصّصين في مجال الأمن الغذائي، والافتقار إلى برامج زراعية متكاملة لتعزيز السوق بالسلع في الأزمات، وكذلك الى توافر وسائل نقل وطنية رخيصة للمنتجات المستهلكة، إذ يمكن أن تتجاوز تكلفة النقل 30% من التكلفة النهائية للسلعة.
الدراسة لحظت أن أسعار نحو 80 سلعة في 3 فترات زمنية: من عام 2012 حتى تشرين الأول 2019، أي الفترة قبل الأزمة، ومن تشرين الأول 2019 حتى نهاية عام 2021 (فترة الأزمة مع السلع المدعومة)، وعام 2022 (بعد إلغاء الدعم).
في الوقت عينه، وخلال العامين الأولين من الأزمة، لجأت الحكومة الى دعم الوقود ومشتقاته والقمح والخبز وبعض السلع الأخرى، أما خلال عام 2021 فرُفع الدعم، وكانت الأسعار "تتذبذب" لفترة قصيرة من دون أي منطق، ثم استقرّت لاحقاً بسبب تسارع عملية دولرة سوق التجزئة.