الهجرة من لبنان ليست ظاهرة حديثة؛ بل تمتد جذورها إلى قرون مضت، اذ كانت خيارا اضطراريا فرضته الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على اللبنانيين. بدأت الهجرة المنظمة أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، خلال فترة الحكم العثماني، حين دفعت الظروف المعيشية الصعبة والكوارث الطبيعية العديد من اللبنانيين إلى البحث عن حياة أفضل في القارتين الأميركية والأفريقية.
وفي القرن العشرين، تزايدت موجات الهجرة في اوقات الأزمات الكبرى، بدءا من الحرب العالمية الأولى وصولًا إلى الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990). ومع دخول لبنان القرن الحادي والعشرين، تجدد مشهد الهجرة، خاصة بعد أزمة 2019 التي تسببت في انهيار العملة الوطنية وتراجع مستوى المعيشة بشكل حاد، إلى جانب تفاقم الفساد وانسداد الأفق السياسي، ما دفع مئات الآلاف إلى الهجرة بحثًا عن الأمان والاستقرار.
خارطة الاغتراب اللبناني
وتوزيعات المهاجرين حول العالم
يقول رئيس مركز السكان والتنمية وعضو المجلس الوطني للبحوث العلمية الدكتور علي فاعور لـ "الديار": "بمناسبة اليوم الدولي للمهاجرين والذي يُصادف في 18 كانون الأول من كل عام، تعتبر الهجرة بمثابة شريان الحياة لمساعدة اللبنانيين في مواجهة الأزمات المعيشية التي يواجهها لبنان".
ويضيف : "لذا، نرى أن التحدي الأساسي اليوم في لبنان، هو كيفية إدارة الهجرة وتنظيمها، لجهة اعتماد سياسات ملائمة للاستفادة من الهجرة وإشراك المغتربين في عملية التنمية، لدعم لبنان ومساعدته على مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية، والتصدي للأزمات التي تتفاقم نتيجة الانقسامات السياسية، والفراغ الحاصل على مختلف المستويات، لهذا تتزايد أهمية الهجرة على كافة الاصعدة".
الهجرة هي الاستثمار
الأهم في بناء المستقبل
ويؤكد ان "خارطة الهجرة والانتشار اللبناني تشمل مختلف المناطق في العالم، حيث بدأت موجات الهجرة وعلى فترات زمنية متفاوتة، ويمكن تحديد عدة مراحل تتوزع بين الهجرات القديمة حتى عام 1960، والهجرات الحديثة بعد الحرب الأهلية حتى عام 2000، وعدوان تموز 2006، وصولا الى عام 2013، حتى المرحلة الأخيرة مع بداية الأزمة الاقتصادية المالية عام 2019، والتي لا تزال مستمرة منذ خمس سنوات، وهي لا تزال مستمرة بوتيرة مرتفعة حيث خسر لبنان نحو 600 ألف نسمة، أي ما بين 12 و 15% من عدد اللبنانيين المقيمين والبالغ عددهم (3.864.000 نسمة بحسب احصاء ادارة الاحصاء المركزي عام 2019)".
ويشير الى ان "البارز في تركيب الهجرة اللبنانية ، هو توزيع مناطق الهجرة وتكوين الشبكات الإغترابية في مختلف أرجاء العالم (كما يتبيّن من الخريطة المرفقة)، وحجم الاغتراب اللبناني ودوره في المدن العالمية، كما يشمل الانتشار اللبناني كافة دول العالم، وبخاصة في الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأوستراليا وبلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تشمل الاتحاد الأوروبي والدول الكبرى. ويعتبر لبنان البلد الأول من حيث التحويلات المالية من المغتربين، بنحو نصف سكانه (52% عام 2007، وهي تبلغ اليوم نحو 75%)".
أما حول خارطة الاغتراب اللبناني والانتشار حول العالم، فيكشف ان "عدد المهاجرين اللبنانيين والمغتربين من أصل لبناني المنتشرين خارج لبنان في بلدان العالم يتراوح ما بين 8 و10 مليون نسمة، أو ما يزيد على ضعف عدد اللبنانيين المقيمين في لبنان، ويشمل هذا العدد المهاجرين منذ القِدم مع أنسبائهم وأحفادهم، من جميع الطوائف وبخاصة من المسيحيين الذين كانوا يشكلون الأغلبية في الهجرات القديمة".
ويوضح لـ "الديار" ان "بلدان الهجرة والاغتراب اللبناني تتوزع وفق الآتي:
•المنطقة الأولى: تشمل بلدان أميركا اللاتينية، حيث تكوَّن أكبر تجمّع للمهاجرين من أصل لبناني في البرازيل. وهناك أيضاً عدة بلدان في أميركا اللاتينية استقطبت اللبنانيين، وهي: الأرجنتين والمكسيك والإكوادور وفنزويلا وجمهورية الدومينيكان التي تضم أكبر جاليات للمغتربين اللبنانيين في الخارج.
•المنطقة الثانية: تشمل بلدان العالم الجديد، خارج أميركا اللاتينية، وذلك في الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأوستراليا، والتي كانت مُلتقى موجات الهجرة اللاحقة، وبخاصة أثناء الحرب الأهلية وبعدها.
•المنطقة الثالثة: تشمل بلدان قارة أوروبا وهي التي استقبلت الهجرات الحديثة أيضاً، وبخاصة في المانيا وفرنسا والسويد وإيطاليا وإسبانيا وبلجيكا والدانمرك وغيرها.
•المنطقة الرابعة: تتمثل في بلدان الخليج العربي، اي دول مجلس التعاون الخليجي الست، وهي: المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت والبحرين وسلطنة عُمان، وتضم مجتمعة أكثر من 500,000 لبناني.
•المنطقة الخامسة: تشمل بلدان غرب إفريقيا، وتضم 15 دولة، وبخاصة في ساحل العاج، والسنغال ونيجيريا وغينيا وسيراليون وغانا وليبيريا ومالي والكاميرون".
الترحال الجديد عقّد الوضع الداخلي!
ويتطرق فاعور "الى الهجرات الدولية الحديثة (حتى عام 2015)، بحيث يتبيّن، بحسب التقديرات الأخيرة الصادرة عن شعبة السكان في الأمم المتحدة، معرفة الاتجاهات التي سلكتها موجات الهجرة اللبنانية الحديثة في الخارج، مع تقديرات عامة لعدد المهاجرين وتوزيعاتهم بحسب البلدان المستقبِلة. يُقدَّر عدد المغادرين بـنحو 750.000 مهاجر، ينتشرون بحسب الخريطة المرفقة في مختلف القارات والبلدان حول العالم، وقد تكوّنت شبكات واسعة من الاغتراب اللبناني، بدأت تتوسع لتشمل الجزر البعيدة ما وراء البحار. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، مثلاً، وصلت قوافل المهاجرين إلى جزر هاواي، وحتى المناطق النائية في شبه جزيرة ألاسكا".
ماذا يعني ان يكون لبنان في المرتبة السادسة عالميا؟ يوضح انه "بينما تبدو الأعداد صغيرة إجمالاً، فهي تتناول فقط توزيعات المهاجرين اللبنانيين من المقيمين في الخارج (الأجانب)، بحسب بلد المولد (Foreign born)، أي أنها لا تشمل جميع اللبنانيين من مختلف الأجيال، بل تقتصر على أفراد الجيل الجديد الذين ولِدوا في لبنان، كما أنها لا تضم أبناءهم المولودين في المهجر. وفي الواقع، إذا أحصَيْنا كلّ اللبنانييّن في المهجر، يتراوح عددهم بين 8 و10 ملايين، كما أشرنا سابقاً. ويحتل لبنان المرتبة السادسة بين الدول العربية من حيث عدد المغتربين في العالم".
شبكات الاغتراب اللبناني في العالم
ويستكمل "أدى الانتشار اللبناني في العالم منذ القديم إلى إنشاء جاليات كبرى، أخذ عدد أفرادها يتزايد نتيجة عدم الاستقرار الأمني في لبنان، وتجدد النزاعات الأهلية، وبروز الأزمات الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة، مما أدى إلى نشوء شبكات ممتدة من المغتربين، أخذت تنمو وتتوسع في مختلف القارات .ويمكن نتيجة توفر الإحصاءات تحديد مناطق الحضور اللبناني والثقل الذي تمثله الجاليات اللبنانية المتواجدة في الخارج، وبخاصة في المدن العالمية الكبرى، وفق التوزيعات الآتية: في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم أستراليا وكندا، وبلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية".
ماذا عن الشتات اللبناني في الولايات المتحدة؟ يجيب "يظهر بحسب نتائج تعداد عام 2000، أن 440,279 شخص من العرب الأميركيين في الولايات المتحدة هم من أصل لبناني. أما المدن التي تضم أكثر من ألف شخص في لائحة الأنساب وتزيد فيها نسبة من هم من أصل لبناني على 1,5%، فهي تشمل نحو 59 مدينة وناحية. ويشكل الأميركيون من أصل لبناني الجزء الأكبر من إجمالي عدد العرب الأميركيين المقيمين في معظم الولايات الأميركية، باستثناء ولاية نيو جيرسي، حيث تشكل الجالية المصرية الأميركية أكبر مجموعة عربية".
ويتابع "بحسب التعداد الذي جرى في استراليا عام 2006 فقد ارتفع العدد ليبلغ نحو74,850 شخص من الذين ولدوا في لبنان، وذلك بزيادة قدرها 5% عن تعداد عام 2001".
ويضيف "يتضح بحسب تعداد 2001 أن عدد المهاجرين اللبنانيين في كندا، أو الذين هم من أصل لبناني يبلغ نحو 143,600 شخص. كما أن ما يقرب من نصف الكنديين ممن هم من أصل لبناني، قد ولدوا في لبنان (49 %). تجدر الإشارة الى ان غالبية المهاجرين من أصل لبناني هم من الوافدين الجدد، بحيث أن نحو 37% قد هاجروا إلى كندا بعد الحرب الأهلية وللفترة بين 1991 – 2001، كما أن 36% قد هاجروا أثناء الحرب الأهلية (خلال الثمانينات 1980). ويقدر أن نحو 10% فقط هاجروا قبل عام 1971".
ويختم فاعور "على مستوى المدن والتجمعات الحضرية الكبرى، كانت مدينة مونتريال الكندية تضم أكبر الجاليات اللبنانية في عام 2001، حيث كان ما يقرب من 44,000 شخص من أصل لبناني يعتبرون مونتريال وطنهم، وتعتبر موطن نحو 45% من المهاجرين من أصل لبناني".