تغرق الكواليس السياسية والاقتصادية منذ فترة بمشروع خطة حكومية لإعادة هيكلة القطاع المالي والمصرفي، وذلك بعد 5 سنوات على أزمة صنفتها الأمم المتحدة "واحدة من أقسى 3 انهيارات حصلت منذ منتصف القرن التاسع عشر".
"أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا". إلا أن ما تسرب من الخطة العتيدة، يعرّيها من وظيفتها، ويضعها في مواجهة مع المودعين بكل فئاتهم، ومع المصارف التي وإن قبل بعض كِبارها على مضض، أحكامها وبنودها، فإن المصارف الصغرى ستجد نفسها عن حق في حالة استهداف مقونن، إما لإفلاسها، وإما لدفعها نحو الدمج القسري والخروج من السوق، مع ما سيرتبه ذلك على المودعين وأصحاب الحقوق من إرباكات.
عناوين المشروع الحكومي غير نهائية بعد، بيد أن ملائكته ومسربيه سعوا إلى جس نبض وقياس مدى قابلية المعنيين به، ورد فعلهم على أفكار مسوّدته لمعالجة ودائع 86 مليار دولار.
أخطر ما في المشروع، اقتراح "ليلرة" الودائع، المقدر له أن ينتج سيولة بنحو 75 تريليون ليرة سنوياً، أي بزيادة 130%، على السيولة المتداولة حاليا، والبالغة 58 تريليون ليرة، ما سيؤدي حتما إلى جنون في سعر الصرف، وتنامي تضخم تراكمي سنة تلو أخرى، لا لجام له، فيما علم أن مصرف لبنان غير موافق على هذا الإجراء لخطورة انعكاسه على سعر الصرف.
وثمة خطورة أخرى لفت إليها أحد رجال الأعمال اللبنانيين لـ"النهار"، تتمثل في مقترح تصنيف الودائع بين "شرعي وغير شرعي"، أو "مؤهلة وغير مؤهلة"، إذ يعتقد "أن هذه الصفات لن تصيب الودائع بضرر فحسب، بل ستصيب سمعة المودع مباشرة، وستوقعه في إرباكات قانونية وربما قضائية، وقد تتحول إلى إشارة ذات دلالات سيئة على ملاءته، ومصدر أمواله، وشفافية استثماراته". ولا يستبعد أن يتحول هذا الإجراء إلى مصيدة للمغتربين، وسيف مصلت فوق رؤوسهم في ما لو تسربت لوائح الودائع غير المؤهلة وأسماء أصحابها، وهذا ممكن جدا، ليصير التصنيف لـ"غير المؤهلين" مستندا قانونيا تأخذ به الأجهزة الرقابية في دول الاغتراب، وإثباتاً يعتد به أمام مؤسسات إنفاذ القانون لديها، فتتم ملاحقة المغتربين قضائيا، بتهم ليس أقلها التهرب الضريبي وتبييض الأموال".
الخطة هي خلاصة تجميع مشاريع وأوراق عمل ومقترحات خطط تقدمت بها أحزاب وقوى سياسية موالية ومعارضة، تم تبويبها في مشروع واحد، يضيق المقال لتفنيده وشرحه، إلا أن 3 إجراءات وجب الإشارة إليها:
الإجراء الأول، هو الخطأ الفادح في جدول إعادة الودائع المضمونة "المؤهلة"، التي حددها المشروع بمئة ألف دولار لكل عميل، مقسطة على 11 سنة.
وفق الخطة، يبدأ التقسيط بـ 400 دولار شهريا في السنة الأولى (4800 دولار)، ويزيد إلى 500 حتى السنة الخامسة (18000 دولار)، ليصل إلى 600 دولار مع نهاية السنة السابعة (21000 دولار)، و700 دولار حتى نهاية السنة العاشرة (25200 دولار)، لينتهي برناج التقسيط عند 800 دولار في ختام السنة الحادية عشرة (9600 دولار).
وفي عملية حسابية لمجموع الأقساط المذكورة أعلاه، يصل المبلغ المدفوع إلى 79200 دولار فقط، ليبقى مبلغ 20800 دولار غير مجدول، وغير مشمول بأي من البنود الأخرى.
فيما يشرح مستشار رئيس الحكومة نقولا نحاس الذي أشرف على إعداد الخطة، أن هذا التوزيع "مقاربة وليس جدولا حسابيا، وتراتبية المعالجة هي الأهم وفق ما تم الاتفاق عليه مع صندوق النقد".
الإجراء الثاني هو اللجوء إلى إستخدام سندات الـ"زيرو كوبون"، المزمع تغطية جزء من الودائع المؤهلة عبرها بقسائم مدتها 20 سنة، وغير المؤهلة بقسائم مدتها 30 سنة. اللافت هنا اقتراح الخطة استعمال نحو 2.9 ملياري دولار من الاحتياط الدولاري المتبقي من الودائع في مصرف لبنان، لتغطية سندات "زيرو كوبون" بقيمة 11.8 مليار دولار، بما يعني أن المودع سيدفع من جيبه ثمن استرداد جزء من وديعته!
الإجراء الثالث، هو في بنية "الصندوق الائتماني" لحفظ أصول الدولة وإدارتها، حيث سيحال عليه 15 كيانا اقتصاديا وطنيا، يعتورها الفساد والتحاصص السياسي والمذهبي. بالإضافة إلى أن بعض هذه الكيانات، مثل إدارة حصر التبغ والتنباك، والمرافئ البحرية والمطار، وطيران الشرق الأوسط، وشركات الاتصالات، هي مؤسسات رابحة تعتاش منها موازنات الدولة، وتتكئ المالية العامة على عائداتها لتأمين المصاريف العامة، وتاليا كيف تتدبر الدولة أمورها المالية في غياب أهم مصادر دخلها؟
يؤكد نحاس لـ"النهار" أن خطة إعادة الانتظام إلى القطاع المالي وجدولة دفع الودائع لأصحابها هي عبارة عن مزيج أو ملخص عن كل مشاريع القوانين والخطط المالية والمصرفية التي أرسلت إلى المجلس النيابي، وخصوصا من الكتل النيابية (حركة أمل، التيار الوطني الحر، والقوات اللبنانية)، لافتا الى أن الطرح المستند إلى "الليلرة" ليس بجديد ونصوصه من العام 2022"، ومشيرا إلى أن "الأرقام مقاربة تقديرية".
ويؤكد أن لا جديد في الخطة، في ما عدا الموضوع المتعلق بـ"الزيرو كوبون" القاضي بالتسوية الجزئية للودائع الكبيرة من طريق الاستثمار في سندات صفر قسيمة "زيرو كوبون"، ومجمل الودائع التي ستحصل على سندات ذات قسيمة صفرية يبلغ 11.8 مليار دولار بكلفة نحو 2.9 ملياري دولار. وسيحصل المودعون المؤهلون على سندات من هذه الفئة تستحق بعد 20 سنة، فيما سيحصل المودعون غير المؤهلين على سندات من هذه الفئة تستحق بعد 30 سنة، على أن تكون كل السندات مصنفة (+A) وتتحمل الحكومة كلفة تمويلها عبر مبلغ تحصل عليه من مصرف لبنان لتنفيذ العملية، وترده على مدى 10 سنوات.
ولا ينفي نحاس أن نسبة "الليلرة" زادت إلى أكثر من 75 تريليون ليرة، ولكن يمكن تغطيتها من إيرادات المؤسسة المستقلة التي سيتم إنشاؤها بموجب قانون خاص، تتسم بالاستقلالية الكاملة ولها الشخصية الاعتبارية. إذ ستتحول إليها ملكية أصول الدولة المحددة حصريا في القانون، وستتمتع بالحصانة السيادية. وتتولى المؤسسة مهمة إدارة هذه الأصول، بما في ذلك (كهرباء لبنان والامتيازات المستردة إليها، المؤسسات العامة للمياه والمصلحة الوطنية لنهر الليطاني والامتيازات المستردة إليها، شركات الاتصالات بما في ذلك مؤسسة "أوجيرو"، الهاتف الثابت، والبريد، إدارة حصر التبغ والتنباك، المرافئ البحرية والبرية، المطارات، المؤسسة العامة للنقل وسكك الحديد، طيران الشرق الأوسط، الشركات المالية مثل إنترا، مصرف الإسكان، ومؤسسة ضمان الودائع، مؤسسة اليسار، مشروع لينور، تلفزيون لبنان وإذاعة لبنان، المدن الرياضية ونادي الغولف اللبناني، منشآت النفط في طرابلس والزهراني، معرض رشيد كرامي الدولي – طرابلس).
من جهته، يصف الخبير في شؤون الاقتصاد نيكولا شيخاني خطة الحكومة الأخيرة الهادفة إلى إعادة هيكلة الاقتصاد والودائع بالـ"كارثية"، ويقول: "أول خطة أعدتها الحكومة كانت تقضي بشطب 70% من الودائع، أما الثانية فشطبت 80% منها، فيما الخطة المطروحة اليوم تشطب 90% من دون أن تعيد هيكلة الاقتصاد والقطاع المصرفي".
ووفق شيخاني فإن "تفاصيل الخطة تنص على إعطاء أصحاب الودائع التي لا تتخطى 100 ألف دولار وديعتهم على 11 سنة، أما أصحاب الودائع التي تراوح قيمتها بين الـ100 والـ500 ألف دولار فسيحصلون على أسهم في القطاع المصرفي المفلس، فيما أصحاب الودائع التي تفوق النصف مليون دولار ستحول ودائعهم إلى الليرة اللبنانية، وهو ما سيدهور سعر صرف الليرة مجددا، وقد يصل سعر الدولار الواحد إلى 300 ألف ليرة".
وبالحديث عن الحل السليم لإعادة هيكلة الاقتصاد والقطاع المصرفي يقول شيخاني: "يجب وضع خطة اقتصادية متكاملة ترتكز على رد الدولة ديونها للمصرف المركزي وإعادة تكوين رأس مال المصارف، قبل الاقتطاع من ودائع الناس، إذ إن هذه الخطوة تفقد الثقة بالقطاع المصرفي، وتاليا ستتراجع الاستثمارات ويتراجع بذلك النمو الاقتصادي".