الأخبار والأنشطة

28 كانون أول 2021
طوابير البنزين طبعت العام 2021... وامتدت إلى حليب الأطفال وجوازات السفر والخبز والغاز
كتب الصحافي كميل بو روفايل في موقع النهار بتاريخ 28 كانون الاول 2021 
في صيف الـ2021 اكتمل مشهد الانهيار، وعلم اللبنانيون من خلال الطوابير أن لا قعر لما يمكن الوصول إليه ومشاهدته. في ذروة الموسم السياحي اختبر اللبنانيون أفظع التجارب من
جديد، وعاشوا قصصاً كثيرة لا يمكن سردها كلّها هنا. لأنّ طوابير البنزين وساعات الانتظار أمام مراكز الأمن العام والركض بين الصيدليات والأفران كانت تجارب منظّمة، على المواطن المرور بها حتّى يرضخ للمرحلة التي نعيشها الآن، وهي أسعار خيالية مقارنة بالرواتب، والمزيد من الفقر والذلّ.
 
وقع لبنان في العتمة الشاملة هذا الصيف، وكاد الانترنت ينقطع، وسُرقت كابلات واحتلّت مراكز تحويل الطاقة، و"فلت الوضع"، وأصبح لبنان ميداناً للزعران التابعين لبعض الأحزاب حتّى يحصلوا على جزء من مغانم هذا الانهيار الكبير، فـ"فلتوا" على محطات المحروقات وباعوا البنزين في السوق السوداء مدبّرين شؤون جماعاتهم، رأيناهم مسلّحين على المحطات أمام أعين الأمن، ومخزّنين للأدوية والبنزين، ومحتكرين الموادَّ الغذائية المدعومة، وفعلوا الكثير.
أمام هذه المشهدية خسرت المطاعم والفنادق، وتلقّت ضربة موجعة في عزّ أزمتها، وأصبح لبنان رسمياً دولة من دون رأس، انتهت صلاحية طاقمها الحاكم والبديل غير موجود، ورغم تأليف حكومة جديدة، لا نزال من دون سلطة تنفيذية.
حصلت روايات عديدة خلال الانهيار في مرحلة العام 2021، ومن هذه الروايات صراع على أكياس من الحليب والسكّر المدعومَين، وطوابير أمام "السوبرماركات" التي تعرض سلعاً مدعومة.
زينة، 35 عاماً أمّ لثلاثة أولاد "انتظرت ساعة قبل فتح الرفّ المدعوم، ولم أتمكّن من شراء الحليب لأطفالي"
روت زينة لـ"النهار" أنّها انتظرت مع عشرات الأشخاص فتح قسم الموادّ الغذائية المدعومة في إحدى "السوبرماركات" القريبة من منزلها. أرادت شراء الحليب لأطفالها، بالإضافة إلى السكّر والزيت. احتسبت زينة كلفة هذه الموادّ في منزلها، وحضّرت المال ونزلت إلى السوبرماركت. الاكتظاظ حتّم على زينة شراء كمامة بعد أن نسيت كمامتها في المنزل، فتحسّرت على الـ2000 ليرة التي خسرتها من المبلغ. عند الساعة التاسعة فتح شاب القسم بعد أن فرّغ العمال الطلبية الجديدة من الموادّ المدعومة، وكانت الكمّية محدودة جدّاً، نظراً لتقنين فتح الاعتمادات للاستيراد المدعوم حينها. عندها حصل الإعصار وفق تعبير زينة، التي بعد أن وقعت أرضاً، تمكّنت من شراء كيس من السكّر فحسب، وعادت إلى منزلها منكسرة من دون زيت وحليب، واضطرّت مرغمة على طلب العون من الأقارب لشراء أصناف غير مدعومة، رغم أنّ الحكومة حينها كانت تتمسّك بالدعم لعدم انفجار الوضع الاجتماعيّ.
 
إلّا أنّ زينة أخبرت أنّها، وبعد أن وقعت أرضاً، شاهدت رجلين يتدافعان للحصول على غالون من الزيت، وكاد الإشكال يتحوّل دامياً لولا تدخّل عناصر الأمن من السوبرماركت. ومن المشاهدات أيضاً سيدات يتصارعن على كيس حليب وإنّ اللواتي خرجن فارغات كنّ يبكين. حصل ذلك في ربيع هذا العام.
 
لم يقتصر الأمر على "السوبرماركات"، لأنّ الصيف كان الكارثة، بالفعل كانت الأحداث الاقتصادية التي نتابعها مفجعة، أدخلتنا في دوامة فباتت عقولنا تركّز على البنزين، حليب الأطفال، الأدوية، الكهرباء، والخبز. علمنا حينها أنّ وجه لبنان تغيّر بالفعل، وخفنا على الحريات ومجالات التفكير والنقاش، لأنّ الحديث اليومي بات سطحيّاً، وهمّ اللبناني تأمين المستلزمات الأساسية، في وقت تسيطر على البلد أحزاب تتفنّن بالحكم العسكري القمعي. فطوابير البنزين طبعت العام، وشلّت البلد.
منذ الحرب، لم يشاهد اللبنانيّون طوابير أمام محطات المحروقات بهذا الشكل، المشهد كان درامياً، لا يمكننا العمل من المنازل لأنّ الكهرباء مقطوعة وأصحاب المولدات يعجزون عن شراء المازوت، حتّى أنّ المستشفيات أطلقت صرخات استغاثة وحذرّت أنّ أرواح مرضاها بخطر، وبالتوازي لا بنزين للسيارة إلّا بعد الانتظار لساعات طويلة تتجاوز الثلاث ساعات أحياناً للحصول على أقلّ من صفيحة بنزين، كنّا نطلب عطلة لتعبئة الوقود لأنّ المحطات مقفلة بعد الظهر. "تمرجل" بعض أصحاب المحطات على الزبائن، وبعض "زعران" الأحزاب الميليشياوية هدّدوا عدداً من المحطات. كنت أرى المسدّسات على جنب بعض سائقي السيارات التي كان من الواضح أنّ خزّان الوقود فيها أكبر من اللازم، والذين يمرّون قبل المنتظرين، هؤلاء كانوا "صغار السوق السوداء" لأنّ كبارها كانوا بعض الشركات التي تبيع البنزين بأكثر من السعر الرسمي، فارضة أو متواطئة مع المحطات على بيع كوتا في السوق السوداء، كانوا يخزّنون المادة في كلّ مرّة يعلمون أنّ مطالبهم برفع الأسعار ستحصل، وحقّقوا أرباحاً كبيرة في عزّ الأزمة، وإذا كانوا يقولون إنّ تأخرّ فتح الاعتمادات للبواخر يعرّضهم لغرامات إضافية، إلّا أنّ الجهة الوحيدة في الأخير التي كانت تدفع هو المستهلك.

تعرّفت خلال الأزمة على سائق تاكسي باعني نحو 9 ليترات من البنزين من سيارته بـ100 ألف ليرة، في وقت سعر الـ20 ليتراً حينها كان رسميّاً نحو 75 ألف ليرة، وشدّد على أنّه راعاني بالسعر. كنت مرغماً حينها لأنّ سيارتي كانت فارغة، ولا يمكنني العمل من المنزل لأنّ الكهرباء مقطوعة.

سائق "السرفيس" الذي تحوّل إلى بائع بنزين في السوق السوداء
"بيع البنزين في السوق السوداء أجدى من إهدار المادة على الطريق لنقل الزبائن"

العمّ أحمد يخبر "النهار" عن سبب بيع البنزين في السوق السوداء، فهو كان ينتظر 3 ساعات أمام محطة المحروقات، ويشتري 50 ليتراً من البنزين، لأنّه كان يدفع بقشيشاً للعامل في المحطة فيسمح له بتجاوز الكوتة المفروضة على كلّ سيارة. بعد خروجه من المحطة، كان العمّ أحمد يبيع البنزين للزبون الذي كان يدفع السعر الأعلى، وفي كلّ يوم كان يحقّق ربحاً صافياً لا يقلّ عن الـ800 ألف ليرة لبنانية.
حصل خلال ساعات الانتظار الطويلة نزاعات وإطلاق نار، وقع قتلى، وحصلت حوادث سير بسبب غياب السلامة المرورية أمام المحطات التي كانت الطوابير تمتدّ لعشرات الأمتار في سبيل الوصول إليها.
كانت بسطات بيع البنزين المدعوم مشهداً مألوفاً، وقرّر حينها كثر إنجاز جوازات سفر حتى من دون أن يكونوا قد أمّنوا فرص عمل في الخارج، أنّه تدبير يضمن اقتناص الفرصة فور صدورها.
بالإضافة إلى ذلك، تعمل المديرية العامة للأمن العام جرّاء الأزمة على إنجاز آلاف الجوازات يوميّاً. ولدى وصولي إلى الشويفات كان في الطريق نحو 3 محطات، فاستغرق الدخول إلى مركز الأمن العام ساعة إضافية بسبب زحمة الطوابير. وصلت إلى المركز، ورأيت طابوراً من المنتظرين، أعطاني العنصر في الأمن العام موعداً بعد أسبوع وسجّل اسمي في سجلّه، ولدى وصولي في المرّة الثانية لإنجاز جواز السفر، علمت أنّ القرار الجديد ينصّ على أنّ موعد أخذ الموعد لإجراء جواز السفر بات عند الساعة الخامسة من فجر كلّ يوم عمل، ومن بعدها لا مواعيد. وقال سمير (45 سنة) خلال الانتظار: "طوابير الذلّ لحقتنا إلى مراكز الجوازات، هل يعقل أن ندفع ثمن الجواز ومفترض أن يكون مجانيّاً؟".
 

كل مقال او منشور مهما كان نوعه لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي صاحبه

 

من نحن

تطلّعاتنا هي تأمين عمل لائق ودخل مستدام ومستقر لضمان التنوع الصحي للمجتمع اللبناني والعمل على تشجيع الأفراد اللبنانيين على المساهمة الفعالة في بناء الأمة من خلال مؤسسات القطاع العام.