الأخبار والأنشطة

31 آب 2018
انحراف جَمْعٍ غفير من أساتذة الجامعة اللبنانيّة

هذا في الغلوّ وفي عواقبه وفي سبُل الانعتاق منه. أمّا الانحراف، فيتجسّد في انصراف جمع غفير من أساتذة الجامعة اللبنانيّة إلى المبايعة السياسيّة والمذهبيّة بحيث يعلو عندهم الانتماءُ الحزبيّ على أولويّات العمل الأكاديميّ البحت. ولكَم يذهلني أن أعاين أساتذةً لامعين متألّقين في ميادينهم العلميّة يُسلمون أمرهم لأولياء البلاطات السياسيّة الحزبيّة، فيلتئمون في المجالس الأكاديميّة في حضن الجامعة اللبنانيّة، وديدنهم أن يعزّزوا موقع هذا الحزب أو ذاك، أو هذه الطائفة أو تلك، أو هذا المذهب أو ذاك. وفي ظنّهم أنّ من أفضل السبُل انتصارًا لهويّتهم ولذاتيّتهم ولمنعتهم الجماعيّة الاستماتة في تفريغ أساتذة ينتمون حصرًا إلى أحزابهم ومذاهبهم، ولا ينطقون إلّا بما يمليه عليهم السلطانُ السياسيّ أو الدينيّ. حين تقتنع الأكثريّة اللبنانيّة بفوائد مثل هذا الفعل الحضاريّ، يعود الالتزام السياسيّ في الاجتماع اللبنانيّ وفي الجامعة اللبنانيّة مصدرَ إلهام وإصلاح وتغيير. أمّا ما أعاينه اليوم في الجامعة اللبنانيّة، فيخالف أبسط مبادئ الالتزام الأكاديميّ والالتزام السياسيّ. فكيف يستطيع الأستاذ الجامعيّ أن يوفّق بين منطق التفكير العلميّ الحرّ ومنطق الائتمار السياسيّ الأيديولوجيّ ؟ أفلم يتّعظ الجسمُ الأكاديميّ من التأمّل في الخيبات الوجوديّة الصاعقة التي جناها كبار أهل الفكر من مخالطة سلاطين الاقتدار السياسيّ ؟ فها هوذا أفلاطون يجرّ أذيال الخيبة من تجربته المريرة في جزيرة صقلية (سيراكوزا) حين زُيِّن له أنّه يستطيع أن يؤثّر تأثيرًا فكريًّا صالحًا في نسيب الملك المعَدّ لوراثة السلطان، فإذا به يهان ويساق عنوةً ويرمى في سوق النخاسة عبدًا للبيع والشراء؟ وها هوذا هايدغر المفكّر الألمانيّ الشهير يختبر مرارة الائتمار بالسلطان النازيّ حين قبل رئاسة الجامعة في فرايبورغ، فلم يتورّع عن الاستقالة بعد بضعة أشهر، وفي يقينه أنّه أخضع نفسه في لحظة تخلٍّ مريرة للابتزاز والتهديد والتآمر. وها هوذا المفكّر الفرنسيّ الذائع الصيت بول ريكور ينكفئ من جامعة باريس إلى جامعة نانت الهادئة صونًا لنفسه من انحرافات اليسار السياسيّ الذي كان يحاصر العاصمة الفرنسيّة في أيّار 1968 ويضرب عليها طوقًا من الأيديولوجيا المتطرّفة. يقيني أنّ الأستاذ الجامعيّ لا يجوز له أن يخضع للأيديولوجيا السياسيّة، مهما علا شأنها واتّسقت أحوالُها في زمن من الأزمنة لأنّ مقتضيات التفكير الحرّ تناقض مسلّمات المبايعة. ولا يجوز له أن يخضع للسلطة الدينيّة لأنّها تحرمه من حرّيّة النظر الموضوعيّ في وقائع الوجود.
كرامةُ الأستاذ الجامعيّ حرّيّتُه الذاتيّة واستقلاليّتُه الفكريّة وفرادتُه الأخلاقيّة. فكيف يجوز، والحال هذه، أن يجري تعيين المسؤولين في الجامعة اللبنانيّة من رؤساء وعمداء ومدراء على أساس التأييد السياسيّ، فيما المنطق السليم يستوجب الانتخاب الحرّ من قبل الأساتذة أنفسهم، بشرط مراعاة معيار الكفاءة العلميّة وصون مقتضيات المناصفة الحضاريّة ؟ تُبكيني مسرحيّاتُ الانتخاب في مجالس الجامعة اللبنانيّة حيث يُعيَّن الرئيسُ أو العميدُ أو المدير وينصَّب سياسيًّا، ومن ثمّ يُنتخب انتخابًا مسرحيًّا. وليس لأحد الجرأة على التنديد بهذه المراءاة التمثيليّة. فإذا أصلحت الجامعة من نظامها، من بعد أن يقتنع أهلُها بالتحوّل البنيويّ الذي أقترحه، أمكن القول بأنّ هذه العمادة أو تلك تعود مداورةً لهذه الطائفة أو تلك، وأنّ الأكفأ والأنزه والأعلم من هذه الطائفة أو تلك هو الذي يتسابق الأساتذةُ ديمقراطيًّا إلى انتخابه. حيئنذ تعود السلطة السياسيّةُ لا تعيّن أساتذة الجامعة اللبنانيّة ورؤساءها وعمداءها ومدراءها، بل يفرز منطقُ الكفاءة ومنطقُ المعايشة الحضاريّة الراقية أفضلَ الأساتذة للانتخاب المباشر من القاعدة. فإذا كان النظام السياسيّ اللبنانيّ مبنيًّا في جميع دوائر القرار على أصل التوزيع الطائفيّ المنصف، فلماذا لا ينقلب النظام الإداريّ في الجامعة اللبنانيّة شبيهًا بهذا النظام السياسيّ، مراعيًا خصوصيّات الاجتماع اللبنانيّ، حريصًا على ربط المناصفة الطائفيّة العادلة بمعايير الكفاءة العلميّة الراسخة؟
أمّا التراخي، فأحمله على وجوه شتّى. ثمّة تراخٍ في قبول الأساتذة الجدُد، وتراخ في قبول الطلّاب، وتراخٍ في تجديد البرامج، وتراخٍ في وضع المعايير الأكاديميّة الصارمة وضبط سقوف المعدّلات، وتراخٍ في محاسبة الأساتذة على إنتاجهم العلميّ والموظّفين على أدائهم المهنيّ، وتراخٍ في ضبط شؤون الإدارة، وتراخٍ في ترقية الأساتذة، وتراخٍ في تصنيف الشهادات الآتية من الجامعات الخاصّة، وتراخٍ في تجويد التدريس ولاسيّما في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والتربويّة المدعوّة زورًا بالعلوم الرخوة، فيما الاجتماعُ اللبنانيّ يعوزه النضجُ الإنسانيّ الذي تضمنه له تنشئةٌ نبيهةٌ رصينةٌ راقيةٌ في هذه العلوم. ولا شكّ في أنّ جميع العهود التي تعاقبت على الجامعة اللبنانيّة كانت تسعى إلى معالجة ضروب التراخي هذه. بيد أنّ الاستنساب في تشخيص مواضع التراخي، والتساهل في الإجراءات التأديبيّة، والتغاضي المتعمّد عن التجاوزات في كلّ حقل من حقول التراخي هذه، هو الذي أفضى بالجامعة اللبنانيّة إلى ما هي عليه من معاثر ومنقلبات. وإنّ أشدّ ما يعثّرني في ضروب التراخي هذه إعراضُ الجامعة اللبنانيّة عن استخدام اللغات الأجنبيّة في نقل المعارف إلى طلّابها، ولاسيّما في العلوم الرخوة. ويُذهلني أن يتخرّج الطلّاب في هذه العلوم وهم جاهلون لكنوز الفكر التي تختزنها آدابُ الحضارات الأخرى التي يعجز العرب عن نقلها كلّها إلى لغتهم نقلًا أمينًا مبدعًا. وتشتدّ المصيبةُ حين يبلغ هؤلاء الطلّاب مرتبة التعليم في الجامعة اللبنانيّة، وهم على هذا الوهن اللغويّ الفاضح. وفي موازاة ذلك، ترتضي الجامعة أن ينتمي إلى جسمها التعليميّ من استحصل على شهادةٍ في الدكتوراه من جامعة خاصّة لا تضع في صدارة معاييرها اكتساب لغة أجنبيّة عالميّة واحدة تهيّئ صاحب الشهادة للاطّلاع الحصيف على مضامين المعارف الكونيّة والآداب العالميّة. أمّا المصيبة الأدهي، فتأتينا في الجامعة اللبنانيّة من بعض الدكاترة المتخرّجين من الجامعات الخاصّة التي تمنحهم شهادة الدكتوراه، ولكنّها تمنع عنهم التدريس في كلّيّاتها، ولسان حالها يقول بدفعهم إلى الانتظام في الجسم التعليميّ في الجامعة اللبنانيّة على سبيل التوظيف الطائفيّ لأنّ ظنّهم بجامعتنا أنّها باتت تأوي لا النابغين من الفقراء الذين ظلمهم النظام الاقتصاديّ المتوحّش، بل فقراء العقول الذين لم يبذلوا الجهود الحثيثة في تأهيل أنفسهم لمثل هذه الرسالة النبيلة.
ليس ينفع أحدًا أن يكتفي بامتداح هذا الإنجاز أو ذاك ممّا تكتسبه الجامعةُ اللبنانيّة اليوم لأساتذتها ولطلّابها من رفيع المعارف ومختمر التنشئة، وهو ما فتئ موضع تقدير وتثمين لجميع محبّيها وأصدقائها. بيد أنّ محبّة الجامعة اللبنانيّة لا بدّ لها من أن تملي علينا الإسهام الطوعيّ المستنير في إصلاحها. والإصلاح عاد لا يستقيم بتكرار المعزوفات الرتيبة المملّة. وحدهما الاعتراف الصادق بخصائص الاجتماع اللبنانيّ، والجهر بإصلاح بنيويّ منبثق من فلسفة العَلمانيّة الهنيّة، يؤهّلان الجامعة للنهوض السليم، ويبثّان في شرايينها روح المبادرة البنّاءة. لقد نظر كثيرون في أحوال الجامعة اللبنانيّة، وأنشأوا الكثير من المشاريع الإصلاحيّة شارك في إعدادها نخبةٌ من أهل الفكر والعلم والقانون في الجامعة. غير أنّ هذه المشاريع ما تجرّأت على قول قولة الحقّ في خلفيّات الانعطاب البنيويّ في الجامعة اللبنانيّة. وهاأنذا أسوق هذا التحليل الدقيق، وأقترح هذا السبيل الخطير، وأناصر هذا الحلّ الاستثنائيّ. فحين يعترف أهلُ الجامعة اللبنانيّة بهذا الغلوّ وبهذا الانحراف وبهذا التراخي، نتنادى جميعُنا إلى تحاور بنّاء يعصم جامعتنا من الانهيار، ويرتقي بها إلى مصفّ الجامعات المستقلّة المسؤولة الواعية الملتزمة المنفتحة المتنوّعة. ما خلا ذلك، خبط عشواء في مسائل متشابكة ملتبسة تزهق النفس وتميت الروح ! وإذا لم نتناصر جميعًا على هذا الإصلاح، فإنّ الجامعة اللبنانيّة ستنقلب ربيبةَ المجتمع اللبنانيّ، تنطق بمنطوقه وتتعثّر بتعثّراته وتئنّ من مصائبه، في حين أنّها هي التي يوكل إليها أن تغدو مربّية المجتمع.

مشير باسيل عون

• جريدة النهار 30  آب 2018 | 00:03

https://newspaper.annahar.com/article/851053-%D8%A7%D9%86%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D9%81-%D8%AC%D9%85%D8%B9-%D8%BA%D9%81%D9%8A%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%B3%D8%A7%D8%AA%D8%B0%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9

 

من نحن

تطلّعاتنا هي تأمين عمل لائق ودخل مستدام ومستقر لضمان التنوع الصحي للمجتمع اللبناني والعمل على تشجيع الأفراد اللبنانيين على المساهمة الفعالة في بناء الأمة من خلال مؤسسات القطاع العام.